فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب: أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتًا للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص.
السؤال الثاني: هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح؟
والجواب: نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطًا في كون العمل الصالح موجبًا للثواب.
وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء.
السؤال الثالث: ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، فظاهر قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه.
والجواب: أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.
السؤال الرابع: هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة.
والجواب فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال القاضي: الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة.
ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه.
فإن قيل: بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي؟
والجواب: ذكروا فيه وجوهًا قيل: هو الرزق الحلال الطيب.
وقيل: عبادة الله مع أكل الحلال، وقيل: القناعة، وقيل: رزق يوم بيوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «قنعني بما رزقتني» وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا» قال الواحدي وقول من يقول: إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبدًا في الكد والعناء.
واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه: الأول: أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيًا بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدًا في الحزن والشقاء.
وثانيها: أن المؤمن أبدًا يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلًا عن تلك المعارف، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه.
وثالثها: أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى، والقلب إذا كان مملوءًا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءًا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.
ورابعها: أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها.
وخامسها: أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه.
واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته، فعند وصوله إليه يكون أيضًا واجب التغير، فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزنًا بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلًا عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده، فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا.
والقول الثاني: وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر.
والقول الثالث: وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحًا فملاقيه} [الانشقاق: 6]. فبين أن هذا الكدح باقٍ إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه، وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر، وصحة بلا مرض، وملك بلا زوال، وسعادة بلا شقاء، فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وَلنَجْزِيَنَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقد سبق تفسيره، والله أعلم.
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}.
اعلم أنه لما قال قبل هذه الآية: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة.
المسألة الثانية:
قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به الكل، لأن الرسول لما كان محتاجًا إلى الاستعاذة عند القراءة فغير الرسول أولى بها.
المسألة الثالثة:
الفاء في قوله: {فاستعذ بالله} للتعقيب فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال الواحدي: وهو قول أبي هريرة ومالك وداود قالوا: والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثوابًا عظيمًا، فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه، وتلك الوسوسة تحبط ثواب القراءة أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصونًا عن الإحباط.
أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، وقالوا: معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، وليس معناه استعذ بعد القراءة، ومثله إذا أكلت فقل: {بِسْمِ اللَّهِ} وإذا سافرت فتأهب، ونظيره قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6]. أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا، وأيضًا لما ثبت أن الشيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرسول بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، ومن الظاهر أنه تعالى إنما أمر الرسول بالاستعاذة عند القراءة لدفع تلك الوساوس، فهذا المقصود إنما يحصل عند تقديم الإستعاذة.
المسألة الرابعة:
مذهب عطاء: أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت القراءة في الصلاة أو غيرها، وسائر الفقهاء اتفقوا على أنه ليس كذلك، لأنه لا خلاف بينهم أنه إن لم يتعوذ قبل القراءة في الصلاة، فصلاته ماضية، وكذلك حال القراءة في غير الصلاة لكن حال القراءة في الصلاة آكد.
المسألة الخامسة:
المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس، والأقرب أنه للجنس، لأن لجميع المردة من الشياطين حظًا في الوسوسة.
واعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة فقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفًا وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولهذا المعنى قال المحققون: لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى، والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله: {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
ثم قال: {إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} قال ابن عباس: يطيعونه يقال: توليته أي أطعته وتوليت عنه أي أعرضت عنه: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير في قوله: {به} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه راجع إلى ربهم.
والثاني: أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه، وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها، فكذلك قوله: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين. اهـ.

.قال الجصاص:

بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
رَوَى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءةِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ: الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءةِ فِي الصَّلَاةِ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاء قَالَ: الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ قِرَاءةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إذَا تَعَوَّذْت مَرَّةً أَوْ قَرَأْت مَرَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَجْزَأَعَنْك، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَكَانَ الْحَسَنُ يَسْتَعِيذُ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يَسْتَفْتِحُ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَأُمَّ الْقُرْآنِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رِوَايَةٌ أُخْرَى قَالَ: كُلَّمَا قَرَأْت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ حِينَ تَقُولُ آمِينَ فَاسْتَعِذْ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْقِرَاءةِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُتَعَوَّذُ فِي الْمَكْتُوبَةِ قَبْلَ الْقِرَاءةِ وَيُتَعَوَّذُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إذَا قَرَأَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْقِرَاءةِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءةِ، وقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْلَاقِ مِثْلِهِ.
وَالْمُرَادُ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ تَسْأَلَهَا مِنْ وَرَاء حِجَابٍ بَعْدَ سُؤَالٍ مُتَقَدِّمٍ، وَكَقوله تعالى: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وَكَذَلِكَ قوله: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} مَعْنَاهُ: إذَا قَرَأْت فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءةِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْقِرَاءةَ فَاسْتَعِذْ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا قُلْت فَاصْدُقْ وَإِذَا أَحْرَمْت فَاغْتَسِلْ يَعْنِي قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءتَهُ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءةِ شَاذٌّ، وَإِنَّمَا الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءةِ لِنَفْيِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ الْقِرَاءةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَالِاسْتِعَاذَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمْهَا الأعرابي حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمْ يُخْلِهِ مِنْ تَعْلِيمِهَا. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ قَالُوا: إنَّ الْقَارِئَ إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَقَالَ الْعُلَمَاء: إذَا أَرَادَ قِرَاءةَ الْقُرْآنِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا ظَاهِرَ إذَا قَرَأْت عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَدْت، كَمَا قَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} مَعْنَاهُ، إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَكَقَوْلِهِ: إذَا أَكَلْت فَسَمِّ اللَّهَ؛ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْأَكْلَ.
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فَعَلَ يَحْتَمِلُ ابْتَدَأَالْفِعْلَ، وَيَحْتَمِلُ تَمَادِيهِ فِي الْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ تَمَامَهُ لِلْفِعْلِ.
وَحَقِيقَتُهُ تَمَامُ الْفِعْلِ وَفَرَاغُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ حَقِيقَتَهُ كَانَ فِي الْفِعْلِ، وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بِنَاء الْمَاضِي هُوَ فَعَلَ، كَمَا أَنَّ بِنَاء الْحَالِ هُوَ يَفْعَلُ، وَهُوَ بِنَاء الْمُسْتَقْبَلِ بِعَيْنِهِ.
وَيُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِك الْآنَ، وَيُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلُك سَيَفْعَلُ، هَذَا مُنْتَهَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ.
وَإِذَا قُلْنَا: قَرَأَ، بِمَعْنَى أَرَادَ، كَانَ مَجَازًا، وَوَجَدْنَا مُسْتَعْمَلًا، وَلَهُ مِثَالٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءةِ؟ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُلْنَا: فَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ؛ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاء فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا، أَوْ اجْتِنَابِهَا نَهْيًا.
وَقَدْ قِيلَ: فَائِدَتُهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءةِ، كَمَا قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ} يَعْنِي فِي تِلَاوَتِهِ، وقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي جُزْءِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ.
المسألة الثالثة:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الْقِرَاءةَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ يَقُولُ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ».
هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءةِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَرَى الْقِرَاءةَ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ بِمُطْلَقِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَتَعَوَّذُ فِي النَّافِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي قِيَامِ رَمَضَانَ.
وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك قَبْلَ الْقِرَاءةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءةِ إسْكَاتَةً فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إسْكَاتُك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءةِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: أَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاء وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».
وَمَا أَحَقَّنَا بِالِاقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، لَوْلَا غَلَبَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْحَقِّ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ بِمَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْعَمَلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُفْعَلُ سِرًّا، فَكَيْفَ يُعْرَفُ جَهْرًا.
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَفِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ، وَلَا يُعَضِّدُهُ نَظَرٌ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْآيَةِ، وَحَقِيقَتَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءةِ لَكَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً لَا تُشْبِهُ أُصُولَ مَالِكٍ، وَلَا فَهْمَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. اهـ.